لقد أحببت الحياة!

بقلم: سامي كمال الدين
كان عملي هو فرحي، إضافة إلى أنه جلب الفرح للآخرين. ما الشر الذي يمكن أن يقع؟ ها هي كتبي، فهل يمكن أن تُتلف؟ (فكرت في تلك الساعة دون أن أرتاب في شيء)، منزلي- هل يمكن أن ينتزع مني؟، أصدقائي-هل يمكن أن أفقدهم؟، فكرت بلا خوف من الموت، والمرض، ولكن الصورة القصوى لما سأكابده بعد لم تخطر على بالي.
لم يخطر لي أن أغدو مشردًا ومطاردًا، وأن اُضطر إلى التنقل كلاجئ من بلد إلى بلد، وأن أجتاز محيطًا إلى المحيط، وأن تُحرق كتبي، وتُحظر وتُصادر، وأن يُدرج اسمي في قائمة مثل أسماء المجرمين، وأن يشحب لون هؤلاء الأصدقاء الذين تستلقي رسائلهم أمامي على الطاولة إذا التقوني بالمصادفة. لم يخطر لي أن منجزات نحو أربعين سنة من المثابرة يمكن أن تنطمس آثارها، وأن بنية الحياة الصلبة الآمنة، كما قدرت، يمكن أن تنهار، وأنني قد أرغم، وأنا دان من القمة، على أن أبدأ حياة جديدة، والطاقات متضائلة، والروح مضطربة. حقًا إن مثل هذه الصور المنافية للعقل لم تكن لتستحضر في ذلك اليوم.
كان لدي سبب للرضا. فلقد أحببت عملي، وبالتالي أحببت الحياة. وكنت محميًا من الشواغل المادية، فلو حتى لو لم أكتب سطرًا آخر، فإن كتبي كانت تغنيني عن سواها وخيل إلي أنه لم يعد هناك ما ينجز، وأن القدر قد روض. فالأمان الذي عرفته في منزل أبويّ قديمًا، والذي اختفى أثناء الحرب، قد استعادته الجهود التي بذلتها. ما الذي كان يمكن أن أتمناه أكثر من ذلك؟
ولكن الأمر المستغرب هو أن انعدام الرغبة عندي في هذه الساعة قد أورثني قلقًا خاصًا. شيء في داخلي -ليس أنا بالذات- سألني: هل من المرغوب فيه فعلًا أن تستمر الحياة على هذا المنوال الهادئ المنظم المربح المريح الخالي من المشقات والمحن تمامًا؟ ألم تكن الامتيازات والأمان التام في حياتي غريبة عن جوهر ذاتي؟!
تمشيت في المنزل متفكرًا. لقد أصبح منزلي جميلًا في هذه الأعوام، وغدا كما كنت أتمناه. ومع ذلك، هل سأعيش هنا على الدوام؟ هل سأجلس دومًا إلى المكتب ذاته، وأصنف الكتب، واحدًا بعد الآخر، وأتلقى المكافآت، ثم مزيدًا من المكافآت، وبالتالي أصبح سيدًا مبجلًا تتصف حياته بالكياسة واللياقة المتناسبتين مع اسمه وعمله، بعيدًا عن لعبة الحظ، وكل الأخطار والترقيات؟ هل ستبقى الأمور ثابتة على هذه الشاكلة حتى سن الستين فالسبعين؟ أليس من الأفضل لي -استمر حلمي- إذا دخل حياتي شيء ما وجعلها أكثر اضطرابًا وتشوقًا وشبابًا باستنهاضي إلى صراع جديد، وربما أخطر؟
إن كل فنان يضمر ازدواجية غامضة: فإذا تقاذفت به الحياة تاق إلى السلام، ولكن ما أن يُمنح السلام حتى يشتاق إلى الاضطراب القديم. لذلك فقد اختلجت في صدري رغبة شريرة واحدة-رغبة في شيء ينتزعني مرة أخرى من كل هذه الضمانات والأوضاع المريحة، ولا يحتم علي الاستمرار فقط، بل الابتداء من جديد.
أكان ذلك هو الخوف من الشيخوخة، والوهن؛ والتكاسل؟ أم كان هاجسًا مبهمًا ذاك الذي جعلني أتمنى حياة أخرى أصعب من أجل روحي؟
لا أدري. وذلك لأن ما انبثق من غسق الباطن في هذه الساعة الغريبة لم يكن رغبة واضحة، ومن المؤكد أنه لا يرتبط بالإرادة الواعية. لم يكن أكثر من فكرة عابرة حملتها الريح إليّ، وربما لم تكن فكرتي أنا، بل فكرة جاءت من الأعماق التي لا أعرف عنها شيئًا. ولكن القوة الغامضة الخفية التي تهيمن على حياتي، والتي حققت لي أكثر مما تجرأت على تمنيه، لابد أنها قد فزعت من هذه الحياة، وارتفعت يدها طائعة لكي تقوضها حتى قواعدها، وتجعلني أبني من أنقاضها حياة مختلفة تمامًا من أسفلها إلى أعلاها، حياة أشق وأصعب».
كلمات stefan zweig هذه التي خطها في مذكراته «عالم الأمس» تكتبني تمامًا، تعبر عن كل خلجة من خلجات نفسي، نفسي التي كانت تلح عليّ أن أكتب مثلها تمامًا، لكن مَن أنا حتى أكتب مثل ستيفان تسفايج الكاتب الذي ترجمت كتبه إلى جميع لغات العالم؟!
هذه الكلمات تعبر عن همي طوال سنوات عشر وعن كينونتي وإلحاح العقل الباطن الدائم علي.
سامي كمال الدين
جريدة الراية
الخميس, 15 فبراير, 2024