مقالات

الصراع على سلمان الفارسي

المستشرق الذي كشف أسرار المتصوفة
بعد أن عرضنا لتجربة وحياة ماسينيون في الاستشراق، نقدم هنا رؤى ماسينيون، ثم نرد عليها بعد ذلك..

نشر ديوان الحلاج، وكتب عن “ابن سبعين والنقد النفساني”، وعن “أبو الحسن الششتري”، وعن “روزبهان البقلي”، وعن آخرين غيرهم. وفي بحثه عن سلمان الفارسي تعرض لويس ماسينيون للبواكير الروحية في إيران، ولنشأة سلمان وعلاقته بالرسول صلى الله عليه وسلم وحديث “سلمان منا آل البيت”، وناقش إن كان سلمان شخصية حقيقية أم لا، وخلص إلى أن “ما أتينا به هنا من أنباء جمعناها كفيل بأن يقدم طائفة من الظنون الواضحة، التي تؤيد كون سلمان شخصية تاريخية وجدت حقاً. أما ازدهار الأساطير حول إسلامه، والتمجيد الديني للدور الذي قام به من جانب الشيعة المغالية فلم يحدثا إلا بعد فترة اختمار وتأمل عادية”.

فهل في وسعنا الآن أن نضع المسألة في وضع أقرب إلى الدقة؟ أما فيما يتعلق بالتأثير الشخصي الذي لا بد أنه كان له، فلا نستطيع إلا أن نضرب في أودية الحدس والفروض: دوره في تحديد بعض الشعائر مثل الاستبراء وتخميس الصلاة؛ وفي استعمال “التأويل الشخصي” في التفسير، مما نجده عند ابن مسعود والمقداد، ولنلاحظ أنه طالما كان القرآن غير مجموع فإن الآيات كانت لا تطفو في الذاكرة إلا مرتبطة بهذه الشخصية أو تلك، مبجلة أو مبغضة، فإسرائيل في القرآن كان يبدو على هيئة مجموعة من الأمثلة المتحققة في تطبيقاتها على أحوال الرسول، من أصدقائه وخصومه؛ وقد تكونت شعيرة “التصلية” مرتبطة بالآية 84 من سورة الشعراء {واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين}، وهي شعيرة مليئة بدعوى الإمامية الشيعية (كما صليت على إبراهيم وآله.. الآل ليس الأمة)، وفي السنوات من الأولى إلى العاشرة في المدينة، قبل تحديد الحج حول الكعبة، كان من المحتمل أن التهليل كان يقام أمام الرسول، ويمكن أيضاً أن يكون التهويس البدوي الموجود الآن كان يقام حوله، مما سيقتصر فيما بعد على الطواف بمكة.. وسلمان قد كون على الأقل قارئاً هو قرثع الضبي (المتوفى سنة 32 هـ) .

وليس ثمة ما يمنع من الظن أن النبي قد كانت له صفوة من الصحابة الموثوق بهم، إلى جانب مساعديه السياسيين الكبار، ومحالفين من أصحاب المنافع ومن المشكوك فيهم، وكانوا أعز إلى قلبه من المؤامرات الدبلوماسية في بيت أزواجه، وأنه كان يؤثر من بعد خديجة وزيد وأكثر منهما حذيفة وسلمان، وكان ثمة إلى جانب من شاركوا النبي إيمانه القوي بانحداره من صلب إبراهيم ورسالته مبشراً ونذيراً، نفر من الزهاد المشتاقين إلى العدل، كانوا ينتظرون بلهفة انتصار “القائم”، أعني الحاكم المهتدي “بالروح”، الذي سيقضي أخيراً على أكل الصدقات ويشق قلوب المنافقين.

وفي يوم مشهود – هكذا يروي الشيعة– شهد سلمان المباهلة (شوال سنة 10 هـ، ويوافق 15/ 1/ 631 م) في المدينة عند مقبرة البقيع قرب الكثيب الأحمر. دعا النبي، وهو أمام وفد بني الحارث المسيحيين من نجران، هؤلاء إلى المباهلة ﴿فمن حاجَّكَ فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالَوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمَّ نبتهل فنجْعل لعنة اللَّه على الكاذبين﴾ [سورة آل عمران: 54].

ولهذه المحاكمة، التي فيها إظهاره الوحيد لإخلاصه المطلق، جمع النبي “أهله الخمسة” الذين دثرهم بدثاره وهم – بالإضافة إليه- حفيداه (الحسن والحسين) وابنته فاطمة، وزوجها علي، رهائن على الإيمان برسالته النبوية.. ومنذ ذلك الحين استحال عند بعض صحابة النبي ما كانوا يحملون من مودة نحو الخمسة إلى حب عبادة، فقد قدسوا آل علي لأن قرابتهم الدموية المتفاوتة في قربها من النبي قد تحولت بنوع من الشعيرة العلنية (المباهلة)، نقلت كل أملهم في العدل بعد موت النبي؛ وفريق آخر أبغضهم ناقلين إلى آل علي تأثرهم بموتاهم الكفار، الذين قتلوا في بدر بأمر من الرسول بيد عليّ. فلما قبض النبي، وهي “أعظم مصيبة” كما يكتب في شواهد القبور، كان على سلمان أن يحدد معتقداته ويؤكدها، فبدأت في العراق عند بني عبد القيس حركة الدعوة إلى أحقيّة عليّ بالخلافة، قبل أن يبدأ أبو ذر وعمار، ولم يكن عليٌّ على بينة من المصير المحزن الذي ستسببه له خلافته للنبي في الأمة الإسلامية إلا تدريجياً، فكما لاحظ النظّام، لم يتخذ عليٌّ موقف صاحب حق إلهى إلا حين واجه الخوارج الثائرين الذين قتلوه في سنة “الميم”، سنة 40 هـ.

وازداد هذا الشعور وضوحاً عند ابنه الثاني وخليفته، الحسين، الذي أخذ على عاتقه كل هذا المصير، وغدا ليُقتل في سبيل العدل بكربلاء سنة 60 هـ، سنة “السين “.

وكان سلمان قد توفي قبلهما، بيد أن هذه الرغبة في العدل في الدنيا، وهي التي بذر سلمان بذورها وتحولت إلى مذهب الشيعة، قد استحالت في الإسلام شوقاً إلى الحياة الأبدية، وإخلاصاً من الشيعة لقضية الإمامة وللمهدي المنتظر، وصوفية النـزعة إلى الزهد.. كل هذا نجده – إذا ارتفعنا إلى الأصول الأولى- في سلمان. والقول المشهور الذي فاه به الإمام جعفر الصادق، وأصبح عند أهل السنة فيما بعد من بين الأحاديث النبوية، لا ينطبق على أحد خيراً مما ينطبق على هذا الأعجمي الذي أتى إلى الإسلام من بعيد، ونعني بهذا قوله: “بدأ الإسلام غريباً، فسيعود غريباً مهاجراً (في المدينة) كما بدأ؛ وطوبى لمن سيصير غريباً مهاجراً (في الكوفة، أو القدس، قبلته الأولى والأخيرة) كما بدأ؛ وطوبى لمن سيغتربون من أمة محمد (كي يتفقدوا القائم)، وهى دعوة شيعية إلى البطولة الدنيوية – وقد زاد المحاسبي (أحد الصوفية، متوفى سنة 243 هـ) عليه بتأويل روحي فقال: فطوبى للغرباء، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم المنفردون بدينهم (أي الذين اعتكفوا وانقطعوا لله وحده)”.

المنحنى الشخصي لحياة الحلاج :
يقول ماسينيون في ترجمة لعبد الرحمن بدوي “كانت أولى المدارس الكلامية التي وضعت بوضوح مشكلة إدماج الحلاج في داخل الإسلام هي السالمية في البصرة، الذين قالوا بشرعية إدانته لأنه باح (في سكرة الوجد) بسر التوحيد عينه؛ وبعدها مدرسة الأشعرية (ابتداء القشيري)، الذين قالوا إن الحلاج بفعله هذا قد عبّر عن نفسه بكل وضوح ذهني، وأدان نفسه بنفسه، شاهدا – بحزنه، حزن العاشق المهجور– بأن الله لا يمكن الوصول إليه؛ وهو في هذا قد تشبه بإبليس، وهو النموذج الذى احتذاه (في رأي الغزالي). وإذا كان وجود الخالق ووجود المخلوق واحداً، فلا معنى لقيام حوار العشق بينه وبين الله (المدرسة الوجودية: ابن عربي) . وكان لابد من قيام فيلسوفين، السهروردي الحلبي وابن سبعين المرسي، لتجاوز هذه الشبهات والنظر إلى الحلاج على أنه وليٌّ وشفيع لا تناقض عنده، مؤمن بالتوحيد الأول الكليّ الذي يتجاوز نطاق الإسلام؛ وفي إثرهما قام كثيرون تأملوا في دعوات تضحيته من أجل أعدائه في سبيل كل الناس، فرأوا فيه “قطباً” روحياً يجذب الإسلام إلى الوحدة النهائية: النجم الرازي، وشمس الجين الكيشي (الأستاذ بالمدرسة النظامية)، وجلال الدين الرومي، والفيلسوف نصير الدين الطوسي، والوزير رشيد الدين، وجميعهم عاصروا غزو المغول المدمر ونهب بغداد وتخريبها .
#سامي_كمال_الدين