الكروان الرَبّاني
الكروان الرَبّاني بقلم/ سامي كمال الدين: «مولاي إني ببابك قد بسطت يدي، من لي ألوذ به إلاك يا سندي أقوم بالليل والأسحار ساجية، أدعو وهمس دعائي بالدموع ندي». هل تتذكر كم مرةً سمعت هذه الكلمات وسرقتك من كل شيء حولك، وحملتك إلى عالم آخر من الروحانية..؟ معزوفة تجعلك تترك الدنيا وعارضها وكل ما تخلفه من قبح وسوء، وتسمو بك إلى حياة أخرى تطيب لنا كلنا، ونسعى إليها، لكننا كثيرًا ما نتُوه في الزحام. خلف هذه التواشيح صوتٌ عذبٌ عظيم، وقصة رجل ترك أثرًا كبيرًا في فنّ التواشيح. هل استمعتَ له أيضًا وهو يشدو ب « ماشي في نور الله»، و» إلى متى «، وغيرهما، فالشَّيخ سيد النقشبندي يعدّ أستاذ المدّاحين.. صاحب مدرسة متميزة في الابتهالات، ومازال من أهم علامات شهر رمضان. صوته الأخّاذ القوي المُتميز.. طالما هزَّ المشاعر والوجدان، يصافح آذان الملايين وقلوبهم خلال فترة الإفطار، بأحلى الابتهالات التي كانت تنبع من قلبه قبل حنجرته فتسمو معه مشاعرُ المسلمين.. وتجعلهم يردّدون تواشيحه بخشوع. الشيخ سيد النقشبندي.. هو واحدٌ من أبرز من ابتهلوا ورتلوا وأنشدوا التواشيح الدينية في عصره، كان ذا قدرةٍ فائقة في الابتهالات والمدائح، حتى صار صاحب مدرسة، لُقب بالصوت الخاشع، الكروان الرَبّاني.. وإمام المدّاحينَ. وُلدَ الشيخُ سيد محمد النقشبندي في دميرة إحدى قرى محافظة الدقهليّة عام 1920، ولم يمكث فيها طويلًا، انتقلت أسرته إلى مدينة طهطا جنوب الصعيد، ولم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره. وفي طهطا، حفظ القرآن الكريم وتعلّم الإنشاد الديني في حلقات الذكر بين مريدي الطريقة النقشبنديّة، وهي طريقة صوفية تلتزم في حلْقاتِها بالذكر الصامت بالقلب دون اللسان، والده الشيخ محمد النقشبندي شيخ الطريقة، كان عالمًا جليلًا نُسبت لاسمه الطريقة النقشبنديّة. كان سيد النقشبندي، يحفظ مئات الأبيات للإمام البوصيري، وابن الفارض، وأحمد شوقي، كما كان شغوفًا بقراءة الكثير من مؤلفات المنفلوطي، والعقاد وطه حُسين، وأعتقدُ أنه حين يجيء الوقت لتحليل المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان، سوف يهتم العديد من المؤرّخين وعلماء الاجتماع بالدور الذي لعبه أشخاصٌ، مثل النقشبندي، ومحمد الطوخي، أو حسب قول إرنست غيلنر في كتابه: « مجتمع مسلم «، والذي ترجمه أبوبكر أحمد باقادر، وصدر عن دار المدار الإسلامي عند تحليله لرؤية ابن خلدون، ودور كايم للمجتمع، إذ يرى أنَّ ابن خلدون «كان عالم اجتماع الإسلام، إذ درس تمظهرات الإسلام في المناطق الجافة»، متعرّجًا عبر تحليله للمجتمعات الإسلامية وما لعبته من أدوار ليس نهايتها دور أشخاص مثل هؤلاء .. بدأت شهرةُ النقشبندي عام 1967 حين قدّم التواشيح والابتهالات في الإذاعة المصرية وقرأ القرآن فيها. يسرد شكري القاضي في كتابه البديع «عباقرة التلاوة» حكاية رجل حفظه الزمان من الاندثار بقوله: «كان القارئ والمنشد والمبتهل المصري الشهير الشيخ « سيد النقشبندي « متصوفًا شرب من التصوف حتى ارتوى، فإذا به وقد تحول إلى روح شفافة تحلق في الآفاق هائمة في حب الله ورسوله الكريم محمد بن عبدالله- صلى الله عليه وسلم-، ولذا تربّع الرجل التقي الورع على عرش الإنشاد الديني منفردًا، ما أن يسري صوته عبر الأثير حتى يقتحم القلوب ويأخذ بالألباب إلى عالم روحاني صرف، وهناك اعتقاد سائد بأن الإذاعة المصرية كانت وراء شهرته وانتشاره باعتباره فنانًا بالسليقة وليس بالعلم، استطاع بطريقته الخاصة في الإنشاد والتي تعتمد على قوة الصوت والإحساس العميق بما يقول، أن يصحب المستمعين إلى الملأ الأعلى»، وهذا اعتقاد صحيح إلى حد ما، فالرجل لم يكن موسيقيًا ولم يلمّ بعلوم الموسيقى، ولكنّه على الجانب الآخر كان من المُنشدين الذين يسيطرون على النغمة ويطوّعونها؛ لخِدمة الدعوة إلى حبّ الرسول وآل البيت الكرام، ويسبح باقتدار في عالم الوجدان متسلحًا بحفظ واعٍ وعميق لآلاف القصائد والتواشيح إضافة إلى قوة صوته وتأثره الشديد بالطريقة « النقشبندية «. وقد استُوحي هذا المعنى من كلمة « نقشبندي « وهي كلمة فارسية من مقطعين (نقش – بندي) والأخيرة معناها « القلب «، وقد ارتبط صوت الشيخ النقشبندي أكثر ما ارتبط بشهر القرآن شهر رمضان المعظم، حيث أصبح ثاني أعظم صوت في دولة التلاوة والإنشاد يصافح آذان المسلمين في رمضان بعد صوت مولانا الشيخ محمد رفعت، والجدير بالذكر أن الشيخ رفعت نفسه كان أحد أقطاب الطريقة النقشبنديّة.
#النقشبندي #سامي_كمال_الدين