ارحل
يُعرَف شارل ديجول Charles de Gaulle (1890-1970) بأنه البطلُ المُلهمُ بالنسبة للشعب الفَرنسي والغرب الذي تحمَّل الهزيمة العسكريّة من ألمانيا ثم أعاد مجدَ بلاده.
رفعت فرنسا ديجول إلى مرحلة التقديس، لكن إذ فجأة تُصدِّر صحيفة «الموند» افتتاحيتها عام 1968 بهذا المانشيت: «فرنسا تشعر بالملل»، قامت مُظاهرات من الفَرنسيين في باريس تقول له: يا ديجول 10 سنوات في الحكم تكفي.. ارحل.
لم يقتلهم ديجول في الشوارع ولا التفَّ على الحكم ولا ادعى أنه المُنقذ سليل المجد حامي البلاد والعباد، وإنما ترك السلطة وباريس كلها وذهب ليعيشَ في قريته.
هذا رجل صاحب كبرياء.. صاحب عنفوان وكرامة، ووطني.
دوايت أيزنهاور Dwight David Eisenhower (1890-1969) أعظم رؤساء الولايات المُتحدة الأمريكيّة بإجماع العلماء في الغرب، شاركَ في الحرب العالمية الثانية، كان القائد العام للجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية والقائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا، هو أول قائد أعلى لحلف الناتو عام 1951، في العام 1952 دخل سباق الرئاسة الأمريكي أمام أدلاي ستيفنسون، ونجح في الفترة الأولى وفي الفترة الثانية عام 1956 فاز على ستيفنسون أيضًا، حقق نهضةً اقتصاديةً عظيمةً في تاريخ الولايات المُتحدة الأمريكيّة، وفي عهده أنشئت وكالة ناسا للفضاء، كما أدان العدوان الثلاثي على مصر أثناء حرب السويس عام 1956 وأجبر إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على الانسحاب من مصر، ومع كل هذه الإنجازات فإن أيزنهاور كان أول رئيس أمريكي يخضع للتعديل الدستوري الثاني والعشرين الذي حدد لأي رئيس يحكم أمريكا فترتين رئاسيتين فقط، لم يقل هذا أنا وهذه صنائعي لصالح أمريكا، أجلسوني على كرسي الحكم دائمًا وأبدًا..!
المُشير عبدالرحمن سوار الذهب (1934-2018) خامس رئيس للسودان، تولى الحكم عام 1985 أثناء انتفاضة أبريل 1985 أو الانقلاب العسكري الذي تمَّ في السودان، تولى عقبه رئاسة المجلس الانتقالي بضغط من قادة الانقلاب لأنه أكبرهم سنًا، مثل الرئيس المصري محمد نجيب، ثم أُجريت انتخابات فاز فيها الصادق المهدي رئيس الوزراء، فلم يتردد في تسليم السلطة إليه، أي إلى هيئةٍ مُنتخَبةٍ، وقرر التفرّغ للدعوة الإسلاميّة واعتزال العمل السياسي، على الرغم من أنه كان رئيس هيئة أركان الجيش السوداني ووزير الدفاع، إلا أنه كرّس حياته لخدمة الإسلام وقدّم العديد من الأبحاث التي تُعرّف بقيمة الإسلام في الغرب.
لقد كان سوار الذهب كما شارل ديجول، وطنيًا، مُخلصًا لوطنه، لديه عزة وكرامة، وإنكار الذات غير طامع في سلطة أو سلطان.
في فبراير عام 2024 استقالت رئيسة المجر كاتالين نوفاك على الهواء مُباشرة بسبب منحها قرار عفو عن رجل تستر على شخص اعتدى جنسيًا على أطفال وتمّت إدانته قائلة: «لقد ارتكبت خطأ.. اليوم هو آخر يوم أُخاطبكم فيه بصفتي رئيسة».
تعود القصة إلى اعتداء مُدير دار رعاية أطفال تُديرها الدولة على عددٍ من الأطفال، فقام نائب مُدير دار الأطفال بالضغط على الأطفال من أجل التراجع عن أقوالهم، وبالفعل تمَّ القبض عليه وحوكم بالسجن ثلاث سنوات، ومُدير الدار ثماني سنوات، فقامت رئيسة المجر بمنحه عفوًا.
خرجت مُظاهراتٌ في شوارع المجر ضد قرارها بمنحها العفو، تُطالبها بالرحيل.. هيا ارحلي، فاعتذرت واستقالت، لم يخرج الحرس الجمهوري ولا ضباط وزارة الداخلية للاعتداء على المُتظاهرين وقتلهم، لم يلتف رجالها، المُتورطون حولها، وطالبوها بالقمع، بل استقالت وزيرة العدل السابقة جوديت فارغا، التي وافقت على العفو، من قيادة الحملة الانتخابيّة الأوروبيّة لحزب فيدس الحاكم الذي يترأسه فيكتور أوربان رئيس الوزراء الذي تُعدُّ كاتالين حليفته.
على الرغم من أن رئاسة هنغاريا تقترب من المنصب الشرفي إلا أن «الرئيس» كانت محبوبةً جدًا وسياسيةً ناجحةً وتحظى بمكانةٍ كبيرةٍ لدى الشعب، إلا أنها دفعت ثمن خطئها، بل دفعه الحزب كله، فهي محسوبة على حزب فيدس وأوربان، لذا فإن قرارها أحدث زلزالًا سياسيًا، لكنه لم يمنع من أن يفرضَ الحق نفسه ويُحاسَب الحاكم على الخطأ الذي ارتكبه ولا يتملص منه أو يُحاسب شخص آخر على المشاريب.
هذه ثلاث تجارِب من الماضي إلى الحاضر، وهناك عشرات التجارِب لنبلاء كانوا كرماء مع شعوبهم، استجابوا لمطالبهم، لم تُغرِهم شهوة السلطة وعبادة الكرسي.. ونحن بحاجة إلى نبلاء كثر.. ما أحوجنا إليهم وما أقل النبلاء في عصرنا..!
سامي كمال الدين