آبائي
بقلم : سامي كمال الدين
مثل بطل هاروكي موراكامي في روايته «كافكا على الشاطئ» أغوص في دهاليز الحياة حاملًا حلمي على كتفي، هاربًا من بلاد راحت تحتويني فلفظتني، متدثرًا ببعض من ملابس وبعض من طعام وبعض من حياة، باحثًا -كما البشرية جمعاء- عن سر السعادة الحقيقية، غارقًا في كتب على كتب، لا شيء في بداية المشوار أو نهايته سوى كتب، هم الأصدقاء الحقيقيون، وبعض من البشر يقررون فجأة حرمان أنفسهم من أشياء عزيزة على نفوسهم لأجلك. من هؤلاء البشر الأب الأول، صاحب نقطة العرق التي تسيل على سلسلة الظهر آخذةً معها نقاطًا أخرى، والجبين المتعرق لذلك الأب العظيم، قالت لي والدة زوجتي ذات يوم، وهي الدبلوماسية والسفيرة التي خبرت الحياة: هل تعرف لماذا وافقت أن أزوجك ابنتي؟
ثم أجابت: لأن والدك قال لي في أول زيارة لنا لقد حرصت أن أربي أولادي من مال حلال، وألا يدخل حياتي أو بيتي مال حرام مهما كانت حاجتي.
انصهر الأب كمال الدين والابن سامي في قسوة الحياة وآلامها فخرجت ضحكاتنا طوال الوقت بلا ألم..!
في السنة الأولى من دراستي الجامعية ألفت كتابًا، سرقه زميل لي، لم يتوان أبي حين شاهد حزني على أن يمنحني تكلفة طباعة ألف نسخة من كتابي المسروق لكي أسترد حقي، فكتبت له الإهداء، وكان كتابًا في مواجهة كتاب، فسحب زميلي كتابه من الأسواق!
يحتاج أبي ورحلته في الحياة وحكاياتي معه إلى كتاب يكشف قيمة الآباء في الريف المصري.
الأب الثاني وهو شيخ مسجد قريتنا الشيخ إسماعيل محمد مسلم -رحمه الله- الرجل الذي أعطاني تفسير ابن كثير وديوان الشاعر نزار قباني «الرسم بالكلمات» بيدٍ واحدة، ليؤملني حكمته بعد زمان طويل بأن الدين والدنيا لا يختلفان فقد خلقا لسعادة الإنسان.
وقد كتبت له إهداء كتابي «نزار قباني.. روائع القصائد المغناة».
أب ثالث.. يأخذني من يدي ويلقي بي على سلم النجاح، يتوكأ على جسده المريض ويأتي في منتصف الليل خصيصًا من سرير مرضه الأخير ليساندني في تأسيس مجلة الدوحة، بل وشهد على عقد زواجي، لكم وددت أن أقبّل جبين الأب الثالث رجاء النقاش لكنه عاد إلى القاهرة في نعش..!!
الأب الرابع كان محمود السعدني، فتح أمامي أبواب البهجة، وجعلني أطرق أبواب العاصمة دون خوف، وحين كانت الدنيا توصد أبوابها في وجهي لم يكن هناك أحد ألجأ إليه سوى عم محمود السعدني الذي لم يوصد يومًا بابه في وجهي.. وأشهد أنه حماني وساعدني.
الأب الخامس كان محمد حسنين هيكل الذي اقتربت منه قامة شامخة في بلاط صاحبة الجلالة، أرسلني لأتعلم الصحافة في لندن عام 2007 من خلال مؤسسته، مؤسسة هيكل، والأهم من دعمه المالي دعمه المعنوي.
الأب السادس كان سليمان الحكيم، تعرفت على اسمه ثم التقيت شخصه أثناء حصولي على الجائزة الأولى من نقابة الصحفيين عام 2004 عن عمل صحفي صدر لي في مؤسسة الأهرام.
سليمان الحكيم الذي منحنى أغلى ما يملك في الحياة، وصار لدي أغلى ما أملك، كثيرًا ما حاولت مثل طفل صغير مشاكسة هذا الرجل ومعاندته، وقُمت بمقالب فيه كادت أن تودي به إلى المستشفى، ما يلبث أن يتركني غاضبًا حتى أركض خلفه كطفل صغير أضحك فينفرط غضبه ويضحك، ذات مرة عملت فيه «مقلب» في وجود عدد من أصدقائه القدامى في قطر: محمد الجوادي، محمد القدوسي، سليم عزوز، صرخ د. الجوادي: أنا طبيب قلب وأقول إن لم يذهب سليمان إلى المستشفى الآن سيصاب بأزمة قلبية.
حاولت كثيرًا أن أثبت أنني جدير به، لكني في كل مرة لم أكن على مستوى هذه الجدارة، ولعل الندم الوحيد الذي يعتريني حين أجلس إلى نفسى، ندمي على أنني لم أقترب من تجربته الإنسانية والمهنية كما يجب، ولكم تمنيت أن أحمل له باقة من زهر وكلمات من شعر، لكن عذري أن قلبي ليس كبيرًا لأن من هم مثله يحتاجون قلبًا في حجم الدنيا كي يحبونه ويعرفون قيمته.
هناك عشرات من الآباء كنت أجد في كل محطة من محطات حياتي من ينتظرني منهم ليأخذ بيدي، بعضهم تاه مني في زحام الحياة، بعضهم اختطفه الموت، بعضهم غيبه المرض، ومن بقي معي لم أستطع أن أقول له ذات يوم «شكرًا».. ولا أعرف إن كانت نظرة تلحظها العيون كافية أم حديث باللسان أم…
لا شيء في الدنيا يعدل رد الجميل لمن آزروك وحموك من صقيع الحياة ونزعوا جزءًا من أحلامهم لأجلك، لكي يخبئوك من الألم، حتى لا تكسرك الحياة، فالحياة دائمة الفرح والحزن حالها لا يتغير لكننا نحبها، وما زلت أعبرها ببراءة الأطفال أو حسب قول نجيب محفوظ:
«لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم أمام الذين يعبرون في الحياة ببراءة الأطفال».
سامي كمال الدين
جريدة الراية
الخميس, 11 يناير, 2024