درب الجماميز
بقلم: سامي كمال الدين
للصدفة في حياتي غرائبيات لم يستوعبها عقلي حتى الآن، فمن الأماكن التي سكنتها عندما ارتحلت من الصعيد إلى القاهرة كان درب الجماميز في حي السيدة زينب، الذي اكتشفت بعد ذلك أن أحد الأكثر الأصوات التي تطربني وتشجيني وتسعدني وهي تقرأ القرآن كانت تقرأ كل جمعة في نفس المكان قبل قرن إلا عشر سنوات وهو الشيخ محمد رفعت!
لذا سعدت كثيرًا بالاكتشاف العظيم الذي أعلنت عنه هذا الأسبوع أسرة الشيخ رفعت بعد ٧٥ عامًا من وفاته، وقبل شهر رمضان المُبارك، كل عام وأنتم بخير، فقد كان أحد عشّاق الشيخ رفعت يحتفظ بكَميةٍ كبيرةٍ من التسجيلات الصوتية الخاصة على أسطوانات «الفونوغراف» القديمة ثم قرر التواصل مع عائلة الشيخ، وتسليمهم هذه التسجيلات وهي حوالي ٣٠ ساعة مُسجلة للقرآن الكريم بصوت الشيخ رفعت.
السيدة هناء رفعت حفيدة الشيخ تسلمت هذه الأسطوانات وقامت بترميمها، استغرقت عملية الترميم عامين، في أحد الأستوديوهات، ومع التطوّر التقني استطاعت الترميمات إعادة التسجيلات لحالتها الأصلية. ومن الترتيبات التي رتبت لها في حياتي الصحفية لقاء أسرة الشيخ رفعت، وبالفعل التقيت السيدة هناء رفعت وزوجها في بيتهم عام 2004، وكان هذا أول لقاء صحفي يُجرى مع أسرة الشيخ، لذا تعبت طويلًا حتى توصلت إليهم.
لما قرأت السيدة هناء ما كتبته عن الشيخ رفعت وعرفت قدر محبتي له، وأمانة نقلي لحديثها عن جَدها، أهدتني إرثًا عظيمًا للشيخ، حُزمة من الرسائل الخاصة المُتبادلة بين الشيخ ومُحبيه وعدد من الشخصيات (نشرتها في فصل كامل في كتاب رسائل المشاهير)، ومن ترتيبات الصدفة الجميلة أن هذه التسجيلات سُجلت أثناء قراءة الشيخ رفعت قرآن يوم الجمعة في مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز، حيث كان يقرأ فيه الشيخ قرآن الجمعة أسبوعيًا، وكان أحدهم يتتبع الشيخ مُحبًا، يُسجل له أثناء تلاوته القرآن الكريم.
وهو المكان الذي ذكرت لكم أنني سكنت فيه فترة قصيرة من حياتي، حيث يفوح بعبق التاريخ ورائحة الزمن الجميل، بيوته القديمة وطرقه المُتعرّجة وحاراته الضيقة تخبئ حكايات مُدهشة حفظها التاريخ.
تخيل أن المكان الذي قرأ فيه أعذب صوت القرآن هو أيضًا المكان الذي اختبأ فيه أشهر لص في مصر من الإنجليز ومُطاردة البوليس له، وهو الصحفي والمسرحي حافظ نجيب، الذي قدَّم الفنان محمد صبحي حياته بشكل درامي في مُسلسل «فارس بلا جواد».
كنت دائمًا أصلي في مسجد فاضل باشا وفي يوم الجمعة أحرص على التواجد باكرًا أستمع إلى قارئ القرآن مُتخيلًا الشيخ محمد رفعت، مُتأملًا المكان الذي كان يجلس فيه، ثم أنزه روحي بعد ذلك في الحارات الضيقة لدرب الجماميز، ففي هذا الدرب أيضًا أُقيمت أول مدرسة للفنون الجميلة افتتحها الأمير يوسف كمال عام ١٩٠٨، وفيها تخرج الفنان محمود مختار، والفنان راغب عياد، كما كانت هناك واحدة من أعرق مكتبات العالم وأول مكتبة في تاريخ مصر وهي الكتبخانة، وتوجد تكية وكذلك جامع الكردي.
لم تكن تُضايقني المقاهي الشعبية والورش والمحلات البسيطة، ففيها وجوه مصرية نسميهم الناس «الجدعان»، الذين ربما لا يعرف بعضهم أن هذا الدرب سكنه أيضًا واحد من قادة المُقاومة أثناء الاحتلال الفَرنسي لمصر، مُقاوم كبير ومُحب لوطنه وعالم دين شهير هو الشيخ السادات الذي يُسمّى شارع السادات على اسمه في درب الجماميز، وفي هذا البيت كان يجتمع قادة المقاومة والمُفكرون والعلماء والساسة للتخطيط لمواجهة الاحتلال الفَرنسي لمصر، وما زال البيت موجودًا حتى الآن بمساحته الكبيرة جدًا، فقد كان الساداتي أو محمد السادات أحد قادة ثورة القاهرة الأولى وثورة القاهرة الثانية، وعارض سياسة الدولة العثمانية في مصر لكنه تولى بعد خلع عمر مكرم من نقابة الأشراف منصب نقيب الأشراف، على الرغم من أن الجبرتي يذكر في تاريخه أن الشيخ السادات رفض عضوية الديوان – يشبه مجلس الحكم الانتقالي – الذي قام بتشكيله نابليون بونابرت، كما اعتقل ٤ مرات لأنه كان شديدًا في الحق ومُساندته، عبد الرحمن الرافعي يؤكد ذلك ويقول إنه قال كلمة حق في مواجهة إبراهيم بك ومراد بك.
إيه هذه هي الدنيا، تذكرت هذا التاريخ في درب الجماميز الذي عشت فيه، فكان هذا مقالي في بداية شهر رمضان الكريم لكم، وكل عام وأنتم بخير.
سامي كمال الدين
جريدة الراية
الأحد, 10 مارس, 2024